بعد تجربة طويلة امتدت على مدى عشرين سنة وعملت فيها مع ستة وزراء خارجية في الولايات المتحدة أستطيع القول إنني أصبحت قادراً على رصد الصفات الجيدة الواجب توافرها في وزير الخارجية الناجح، وهو مطلب بات ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى الأزمة الاقتصادية الحالية وتأثيرها على السياسة الخارجية. وفي البداية لابد من الاعتراف بأنني متحيز قليلاً ما يجعلني أعتقد أنه طيلة الثلاثين سنة الماضية لم نحظَ سوى بوزيري خارجية مهمين فعلاً أحدهما جيمس بيكر والثاني هنري كيسنجر، اللذين على رغم أخطائهما ومنتقديهما، وهم كثر على كل حال، استطاعا التميز دون غيرهما في مجال السياسة الخارجية، ليحققا الكثير من الإنجازات. ومع أن لكل منهما شخصيته المختلفة عن الآخر وأسلوبه المغاير في مواجهة الأزمات التي نجحا في معالجة بعضها وفشلا في معالجة بعض آخر، إلا أنهما في النهاية يجسدان معاً أربع صفات أساسية ساهمت في دخولهما التاريخ من أبوابه الواسعة. أولًا، ضرورة توفر وزير الخارجية على الشخصية المناسبة، ولئن كان عالم التحليل النفسي الشهير فرويد قد بالغ أحياناً في التشديد على أهمية الشخصية تحديداً في أي سلوك إنساني، إلا أنه كان محقاً فيما يتعلق بخصائص وشروط نجاح وزير الخارجية الفعال بالذات. وفي هذا السياق لابد لرئيس الدبلوماسية أن يصهر داخله خصال الممثل والمدرس والتقني والمستفز والصديق في نفس الوقت، وهي صفات طبيعية في أغلبها وملتصقة بالشخصية البشرية بخلاف الصفات الأخرى التي يكتسبها الإنسان أثناء مسيرته الحياتية مثل الحضور البدني والفكري. وعندما يدلف وزير الخارجية الأميركي إلى قاعة الاجتماعات سواء في الولايات المتحدة، أو خارجها، فإن أول ما يتعين أن يشعر به الطرف الآخر هو الحذر والترقب بدل اتخاذ وضع مريح على الكرسي وانتظار كيف سيتلاعب بوزير الخارجية، وإذا كان لابد للضيف أن يقلق فلخشية من أن يتلاعب به وزير الخارجية الأميركي وليس العكس. ولنتذكر أن كيسنجر وبيكر أذهلا العرب والإسرائيليين معاً بقدرتهما الفذة على التفاوض وبتحملهما للمشاكل والإخفاقات دون أن يبدو عليهما الاستسلام، أو التأفف، لكنهما أيضاً أظهرا قدرة على التمثيل والصراخ أحياناً، بل والتهديد بتعليق المفاوضات وإلغائها إذا لم يتم التوصل إلى نتيجة. وحسب الوثائق الخاصة بالمفاوضات فقد احتد بيكر مرتين على الأقل على الرئيس حافظ الأسد ورئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير، فيما اصطدم كيسنجر مع الرئيس السوري في إحدى المناسبات. غير أن الحدة في التفاوض كانت ترافقها دائماً إشارات التطمين التي لم يبخل بها بيكر وكيسنجر أثناء مفاوضاتهما الشاقة والطويلة مع العرب والإسرائيليين، وكانت إحدى أهم العوامل المؤدية إلى نجاح مهماتهما الدبلوماسية. ثانياً، لابد أثناء التفكير في اختيار وزير الخارجية القادم الأخذ في عين الاعتبار عنصر الثقة الذي يتعين أن يحظى به من قبل الرئيس، إذ على رغم ما يعتقد البعض من أن اختيار وزير خارجية مقرب من الرئيس ليس أمراً ضرورياً، إلا أن ثقة الرئيس في مهندس علاقاته الخارجية أساسية لإنجاج الدبلوماسية الأميركية. ومن بين وزراء الخارجية الذين عملت معهم لم يكن هناك سوى جيمس بيكر الذي تمتع بعلاقة وثيقة مع الرئيس، بحيث لا يمكن لوزير الخارجية إكمال مهمته بنجاح إذا لم يكن واثقاً بأن الرئيس يدعمه وبأنه مستعد للدفاع عنه في وجه جماعات الضغط الداخلية التي قد تسعى إلى التأثير على سياسته في مجال العلاقات الخارجية وتوجيهها لخدمة أجنداتها الخاصة. وفي هذا الإطار كان بيكر مقرباً جداً من الرئيس جورج بوش الأب، وكانت تجمع بينهما علاقة صداقة قوية يندر تكرارها في الدبلوماسية الأميركية حتى مع كيسنجر الذي حافظ على مسافة بينه وبين الرئيس نيكسون بعدما اعترف له هذا الأخير بقدرته على المناورة الخارجية وترك له مجالاً واسعاً للتحرك، وهو ما شجعه على اتخاذ مبادرات جريئة باسم الرئيس جعلته ينجز مهمته بكفاءة عالية. ولا ننسى أن أصدقاء أميركا كما خصومها لن يستغرقوا أكثر من خمس دقائق لمعرفة من يتكلم باسم البيت الأبيض ومن لا يتكلم، وإذا كان وزير الخارجية من الصنف الأخير فإن أحداً لن يأخذه على محمل الجد وسيفشل في القيام بمهمته الدبلوماسية على الوجه الأكمل. ثالثاً، أما الصفة الثالثة الأساسية في اختيار وزير الخارجية فهي تلك المرتبطة بإمكانياته التفاوضية ومدى قدرته على إدارة الأزمات وحل المشاكل، وهو ما يعني ضرورة توفره على نظرة دقيقة وصارمة تجاه العالم يسعى من خلالها إلى التوفيق بين الأهداف الأميركية من جهة وبين الوسائل المتاحة لتحقيقها من جهة أخرى. وبالطبع ليس هناك مجال في الدبلوماسية الناجحة للعقول المتأدلجة التي تفتقد إلى المرونة في العلاقات الدولية والتعامل بذكاء مع التناقضات التي تفرض نفسها في العلاقات بين الدول. وهنا تبرز أيضاً القدرة على رصد الفرص المحتملة واستشعار الصفقات الممكنة والانقضاض عليها، وهي أمور كلها لها صلة بطبيعة الشخص أكثر منها بالمهارات المكتسبة، ولنا في بيكر وكيسنجر خير مثال، حيث يأتيان من تخصصين مختلفين -أحدهما محام والآخر أكاديمي- لكن مع ذلك كانا مفاوضين ناجحين. رابعاً، وأخيراً نصل إلى الصفة الأخيرة التي يجب توفرها في وزير الخارجية والمتمثلة في الدهاء والصرامة، بحيث يتحول وزراء الخارجية إلى لاعبين أكفاء في التعامل مع الأصدقاء والخصوم. وفي هذا الإطار تصبح الخديعة ضرورية أحياناً، بالإضافة إلى المناورة الدائمة والمستمرة والسعي إلى استخدام جميع الوسائل من حوافز وضغوط وغيرها لبلوغ الأهداف، وهو ما قام به بيكر وكيسنجر في مفاوضاتهما مع العرب والإسرائيليين. وبالطبع لا تستطيع تلك الصفات لوحدها إنجاح الدبلوماسية الأميركية مهما كانت كفاءة وزير الخارجية، ذلك أن هناك عوامل موضوعية من الظروف المستجدة وشخصية الرئيس والأحداث غير المتوقعة، فضلاً عن الأزمات الناشئة التي قد تصعب مهمة الدبلوماسية، حتى لو كانت فعالة وجسورة. لكن أياً كان اختيار الرئيس المنتخب باراك أوباما لمنصب وزير الخارجية سواء هيلاري كلينتون، أو غيرها، فإنه لابد لوزير الخارجية المقبل أن يجمع في تكوينه الشخصي الكثير من الخصال التي جعلت من كيسنجر وبيكر اسمين لامعين في الدبلوماسية الأميركية. آرون ديفيد ميلر مستشار سابق لستة وزراء خارجية أميركيين وباحث في مركز "وودرو ويلسون" الدولي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"